حرب فلسطین; حكّام العالم، من أي عجينة عُجنوا؟

 

"حكام العالم يغمضون أعينهم ويتعامون عن إبادةٍ، تجري في غزّه، مع سبق الإصرار والترصّد"

 

 

المصدر: نشرة أخبار المرکز، إفتتاحیة العدد 45

 

 

إسمحوا لي، أيها القراء، ان أقول إنني، وبناء على الأنباء التي ترد من فلسطين، بت لا أؤمن ان الذين يحكمون العالم هم من جنس البشر.

كنت أؤمن بذلك فيما مضى.

كنت أؤمن بذلك رغم الحروب التي كان حكام العالم يخوضونها ضد أبريائه، ورغم  الوحشية التي كانت تتسم بها تلك الحروب.

فلقد كنت قد عوّدت نفسي فيما مضى على بلع ما يقولون، وعلى هضم ما يفعلون، وإن كان ما يقولونه وما يفعلونه يخالف قيم وتعاليم السماء، ويخالف معاهدات ومواثيق الأرض، ويخالف أبسط حقوق البشر.

كنت افعل ذلك لأنني كنت اعتقد ان من يقود العالم هم مجرد مجموعة من الظالمين، لا أكثر.

 

احيانا كنت اعتقد ان من يقود العالم هم مجموعة من المجانين، لا اكثر

أو مجموعة من المجرمين، لا أكثر

ولذلك اعتقدت ان من يقود العالم هم بشر ظالمون، او بشر مجرمون، أو بشر مختلون عقلياً او نفسياً، لا أكثر. لكنني، صرت مؤخراً أضع هذا الإعتقاد في خانة الأفكار التي تحتاج إلى تأمل.

 

كم قالوا، على سبيل المثال، وبخصوص منطقتنا بالذات، ان ليس هناك أرض اسمها أرض فلسطين

وان ليس هناك شعب اسمه شعب فلسطين

وأنه ليس هناك بالتالي (وهنا بيت القصيد) حرمةٌ أو ذمة لشعبٍ ينادي، او يحلم، بالعودة الى فلسطين!

وكم قالوا، في نفس السياق، أن لا ماء ولا دواء ولا كهرباء يجوز ان تذهب إلى أيّ بقعة من فلسطين،

أو إلى ايّ أسير او جريح او مريض او مسن في فلسطين.. إلا بإذنِ من يتمنى أن ينام فيستيقظ في صباح اليوم التالي على خبر مفاده أن البحر قد أغرق كل قطاع غزة، وانه جرف كل سكانها، وانه لم يُبْقِ بالتالي لنساء القطاع وأطفاله ورجاله من باقية.

(هكذا قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين عام ١٩٩٢).

رغم ذلك كله كنت أعتقد أن من يقول مثل ذلك، ومن يعمل وفق ذلك، هم بشر ظالمون، او بشر مجرمون، أو بشر مختّلون عقلياً او نفسياً.

الا انهم في النهاية بشر كسائر البشر.

 

أما اليوم، وبناء على الأنباء التي تردني تباعاً من فلسطين ومن الغُرف السوداء لحكام العالم ، فإنني بت أشكك بذلك.

فأنْ يُوضع حوالي ثلاثة ملايين إنسان من سكان غزة في مكان مغلق، وأن يُقطع عنهم الماء والدواء والغذاء، وأن يجري قصفهم من البر والجو والبحر، كيفما كان، وبأي سلاح كان، وان يُقتل منهم أيّ عدد كان، فيما العالم يتصرف وكأن لا عيون له ولا آذان، فهذا يجعلني اعتقد أن العالم يحكمه مجموعة من الوحوش لا مجرد مجموعة من الظالمين أو المجرمين أو المجانين.

 

بل انني كنت سأعتقد ذلك لمجرد أن جيشاً من جيوش العالم وضع قطيعاً من الغنم يساوي بحجمه الكتلة البشرية لسكان غزة، في اسطبل مغلق يساوي بمساحته مساحة قطاع غزة، ثم راح، أمام عيون البشرية، يلهو ويتسلى بقتلهم، دون رادع.

بل أنني كنت حتماً سأعتقد ان العالم يحكمه حكامٌ أوحش من الوحوش لو أن هؤلاء هددوا باستخدام حق النقض "الفيتو" ضد أيّ اقتراح يقضي بإيقاف هذا الجنون ضد ذاك القطيع من الغنم.

 

فأي اعتقادٍ إذن سيملي نفسه على عقلي الآن وأنا أرى حكام العالم يغمضون أعينهم ويتعامون عن إبادةٍ، تجري، مع سبق الإصرار والترصّد، ضد حوالي ٣ ملايين انسان؟

 

بل، أي اعتقادٍ سيفرض نفسه على عقلي وانا أرى زعماء العالم يرفضون وضع حدٍ زمني- ولو متأخر- لانتقامٍ جماعي دموي، طويل النفس، لا يفرق بين الشجر والبشر، ولا بين طواقم الإعلام وطواقم الاسعاف، ولا بين الثكنات والمستشفيات، ولا بين العائلات التي صمّمت على البقاء في بيوتها والعائلات التي هربت بأطفالها إلى مخيمات الإيواء بعيداً عن خطوط التماس.. ولا يفرق بين ان يكون ضحاياه، بعد كل قصف، بالعشرات أو بالمئات؟

فلسان حال الأخبار التي ترد من هناك هو أنه: "لا فرق".

 

.. أي اعتقادٍ سيفرض نفسه على عقلي، وأنا أرى، بأم العين، لحظة بلحظة، الأسلحة المحرمة دولياً، تعمل على المكشوف، وعلى مساحة المناطق المأهولة بالأبرياء، وأمام كاميرات البث المباشر، لا لشيئ إلا لأن الذين يحكمون العالم -والذين يعبثون بقواعد المسموح والممنوع في الحروب- لا مانع عندهم من أن يجري استهداف مئات آلاف المدنيين بالأسلحة المحرمة دولياً، بالمباشر، وعلى المكشوف.

 لذلك، وبناء على هذه الأنباء التي ترد تباعاً من فلسطين، بت أتساءل: هل الذين يحكمون العالم هم فعلا من جنس البشر؟

أن اجلس يومياً أمام التلفاز لأشاهد بالبث المباشر، من دقيقة لدقيقة، مشاهد حية لأطفال تُقتل،

واطفال تُقطّع

وأطفال ترتجف وترتعد

واطفال تَنزف

واطفال تَصرخ

 

وأرى زعماء العالم مصرّون على وضعية "صمٌّ بكمٌ عميٌ"، ومصرون على اعتبار ما يجري تحت سقف المباح، فهذا يجعلني اتمنى لو انني كنت أنا هو الطفل الذي يُقتل

او الطفل الذي يُقطّع

او الطفل الذي يَصرخ

 

بدلاً من أن أعيش كشخص قليل الحيلة في عالمٍ يتعامى عن أبشع حربٍ تستهدف النساء والأطفال والشيوخ، في تحدٍ علنيٍّ وفاجر،  لأضخمِ عمليةِ نقلٍ وتوثيقٍ للأحداث في تاريخ الحروب في العالم.   

 

... فمن أي طينة يا ترى خُلق هؤلاء الذين يحكمون العالم إذ يتفرجون على هذه الفظائع والمجازر والمذابح والمحارق ولا يرفّ لهم جفن؟

 

ومن أي عجينة عُجنوا إذ يتمنّون على ماكينات القتل والتدمير ألا تتوقف عن فرم اللحم والعظم قبل ان يرتوي العطشى إلى دماء الأبرياء، من دماء الأبرياء، وقبل أن تضجّ آذان الصّم من أصوات الصراخ ومن ترددات العويل والنحيب، وقبل أن تقر عيون المجرمين والمجانين والشياطين من صور النار والخراب والدمار، ومن مشاهد الأكفان والجثامين والاشلاء؟

 

لذلك إسمحوا لي، أيها القراء، ان أقول إنني، وبناء على فظاعة الأنباء التي تردني من فلسطين، بت لا أؤمن أبداً ان الذين يحكمون العالم اليوم هم من جنس البشر.

 

 

 

 

 

----

تمّ النشر: 09-11-2023